الاحتجاجات الاسرائيلية وعمق الانقسام الصهيوني
بعد تسلّم بنيامين نتنياهو رئاسة الحكومة وتشكيل ائتلافه اليميني الذي يضم مجموعة من الشخصيات الأشد تطرفًا ودموية بداية العام الجاري يتظاهر الآلاف بعد المئة من المستوطنين الإسرائيليين بشكل أسبوعي في عدة شوارع مركزية في المدن المحتلة من يافا وحيفا والقدس وغيرها على خلفية قرارات هذه الحكومة الجديدة التي تشهد -بحد ذاتها- توتّرًا بين من تضم من وزراء ومسؤولين. يرى آلاف المستوطنين المحتجين أن ما أسمته حكومة نتنياهو ب"خطة الإصلاح القضائي" تهديدًا وانتهاكًا جديدًا ضمن سلسلة الانتهاكات التي ارتكبها نتنياهو بحق الدولة الاسرائيلية على حد تعبيرهم.
إن هذه الخطة أشبه بالتعديلات الدستورية التي تقوم بها بعض الأنظمة العربية المتمثلة بزيادة صلاحيات السلطات التنفيذية لدى هذه الأنظمة أو بالتمتع بامتيازات والاختباء خلف حصاناتٍ مطلقة على حساب الشعوب المضطهدة و/أو لإنقاذ أنفسهم من قضايا الفساد التي وقعوا فيها، تمامًا كالأمر الذي يسعى نتنياهو لفعله، فمن شأن هذه التعديلات القضائية تقليص سلطات ما تسمى بالمحكمة العليا الاسرائيلية وتقويضها وتجريدها من صلاحيات عديدة لصالح السلطة التنفيذية، أي الحكومة، إضافةً إلى ما يقول معارضو هذه التغييرات أنها تأتي بمساعٍ ومصالح شخصية ليتسني لبنيامين نتناياهو ومسؤولين آخرين من اليمين المتطرف أن يسقطوا قضايا الفساد عنهم.
من المؤكّد أنه إذا ما شوهِدت مظاهرات حاشدة تسعى إلى انتزاع الحرية ورفض الديكتاتورية في بلدٍ ما، سيُنظر إليها بعين التضامن والمؤازرة، لكن المشهد هنا مختلفٌ تمامًا في كيانٍ يدعي الديمقراطية بل ويسوّق على أنه الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط بينما قام ذلك الكيان على دماء مئات الآلاف من الشعب الفلسطيني وعلى أرضهم التي سلبهم إياها على مرأى من العالم أجمع.
وَكأنه طبيعي؛ في ذلك الكيان اللا شرعي المدعو "إسرائيل" يتظاهر أسبوعيًا ما يفوق المئة ألف من المستوطنين المتظاهرين بإنسانيتهم المجزوءة ضد حكومتهم -المنتخبة- علَّ هذا يطرح العديد من التساؤلات، فما هي مفهومية المستوطن المحتل لأرض غيره عن العدل والحرية؟ وهل حُقَّت له الحرية على حساب حرية الفلسطيني؟ أم أن المستوطن المطالِب بوقف أعمال الدكتاتورية التي تقوم بها حكومته يعتقد بوجود حقٍّ له أصلًا بالتواجد والعيش على هذه الأرض ليخرج إلى شوارعها منددًا بجزءٍ من أركان دولته التي وُجدت أساسًا بالباطل والإرهاب بكافة أركانها ومؤسساتها وبما يراهُ هذا المستوطن مناسبًا أو غير مناسب له ولمعايير حريته.
إن مجرد وجود هذا المستوطن على أرض فلسطين واستيطانِه فيها هو جريمةٌ وانتهاكٌ بحق شعبٍ آخر، وبغض النظر عمّا يحمل هذا المستوطن من أفكار، فإن كان "معتدلًا" كما يدعي الكثيرون منهم ويقف في صف الحق فلِمَ قد يرتضي وجوده ولا يعود حيث أتى؟ ما يعني أن مسألة إدراكه للحق المطلق وغير المجزوء تقتضي في نهاية المطاف أن يسلّم بحقيقة الأمر وأن هذا النظام ككل هو نظام لا شرعي، ولكن لا رهان على أيٍ كان منهم أن يحذو حذو الفلسطيني المناضل والمدافع عن أرضه لأن أقصى ما يمكن أن يعيه المستوطن عن حقوق الفلسطيني بعيدٌ كل البعد عن الحق الرئيسي الذي لا يقبل استيطانًا واحتلالًا لأي شبر من فلسطين.
هذا ما يمكن أن يستغربَ له المشاهد، لا يعقَل أن الاحتجاجات التي من رموزها والمنضمين إليها إيهود باراك وموشيه يعلون وأولمرت وغيرهم من القادة الصهاينة الذي أجرموا وذبحوا ونكلّوا بالشعب الفلسطيني على مدار عقودٍ أن تكون احتجاجات تسعى لحرية حقيقية ذات جوهرٍ حقيقي ونظيف. أيامٌ تزخر بأوضاعَ متوترة ومشحونة أكثر من أي وقتٍ مضى ينتظرها الكيان، ولكن هذه التهديدات تأتي الآن من داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه.
وفي هذا الصدد، لا شك أن شأن الطغاة من شأن بعضهم البعض، فنتنياهو صديقُ الأنظمة العربية المطبعة ماضٍ في إقرار مشروع هذه القوانين في الكنيست ضاربًا عرض الحائط كل هذه الاحتجاجات والتظاهرات الغاضبة التي تطالبه بوقف "الإنقلاب القضائي" كما يصفونه، كذلك هوجم رئيس الوزراء على لسان العديد من المسؤولين والضباط السابقين في جيش الإحتلال حتى وصلت إلى تهديد نتنياهو بالقتل، ما دفع الشرطة الصهيونية لاعتقال العميد السابق في سلاح الجو زئيف راز والذي أطلقت سراحه في وقتٍ لاحق، ولم يكن هذا إلا غيضٌ من فيض؛ فمنذ اشتعال الحالة السياسية الداخلية في الكيان والتهديدات تتراشقُ ما بين كِلي المعارضة والحكومة الإسرائيلية واعتقالات طالت المتظاهرين في الشوارع في أجواءٍ شديدة التوتر تؤرّق كثيرًا من المسؤولين والصحفيين الاسرائليين ممن أبدوا تخوفهم وقلقهم من اندلاعِ حربٍ أهلية بين المحتلين المتطرفين من أنصار الحكومة والمحتلين "الديمقراطيين".
لم يتردد بعضُ المسؤولين الإسرائيليين أن يبدوا رأيهم حيال حربٍ حقيقية ربما تندلع وإعرابِ بعضهم عن تأييد اندلاعها، وأنها قد تنتقل من المكاتب والمنصات إلى الميادين والشوارع، حيثُ كان هذا ما أشار إليه إيهود أولمرت رئيس الوزراء الأسبق لأحد الصحفيين لدى قناة "ديمقراط تي في" الاسرائيلية في وقت سابق من الاحتجاجات قائلًا: "إن المعارك لا نديرها بالخطابات والشعارات وإنما بالمواجهةٍ وجهًا لوجه ورأسًا برأس ويدًا بيد، وهذا ما سيجري هنا".
ما يزيد من تخوفات بعض القيادات الإسرائيلية والمسؤولين ليس فقط التظاهرات في مراكز المدن الاستراتيجية وأمام منزل رئيس الوزراء في القدس المحتلة فحسب وإنما يتركز خوفهم مما بدأت تتخذه هذه الاحتجاجات من مسارٍ تصعيدي بعيد عن الشارع وخروجه عن الدائرة السياسية ليصل إلى مشاركة العديد من الكوادر في المؤسسة العسكرية، حيثُ شهدت الفترة الأخيرة انخراط العديد من العسكريين في هذا الصراع على الساحة السياسية، كما ذكرت القناة ١٣ العبرية أن ضابطًا برتبة عميد في سلاح الجو قد طلب إعفائه من مهامه كقائد في غرفة التحكم في سلاح الجو "الكرياه" على خلفية التعديلات القضائية، هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى ووفقًا لما أضافته القناة الثالثة عشرة أن عددًا من المسؤولين الكبار أخطروا قادتهم أنهم سيتخذون خطوات مماثلة لزميلهم.
من زوايةٍ أخرى وبالأحرى من جانبنا كفلسطينيين، يُنظر إلى هذا الشرخ الآخذ بالتوسع بين مكونات المجتمع الصهيوني على أنه يصُب في مصلحة القضية الفلسطينية بطريقة ما؛ إذ أن هذا المجتمع اللقيط أصلًا، لم يعرف يومًا ما يدعي دومًا من حرية وديمقراطية فكلٌّ منهم سواءً كان اليهودي المتطرف الشرقي يرى أحقيته بدلًا من غيره في تنفيذ أجندته والحكم بناءً عليها؛ سيخالفه غيره بكل تأكيد وإن كانوا على قلب رجلٍ واحد في مواجهة مقاومة الشعب الفلسطيني، حيثُ يشيرُ خبراءٌ وعسكريون اسرائيليون سابقون ومنهم من لا يزال بالخدمة أن مثل هذه الخطوات التي تتخذها الحكومة الحالية ستؤدي إلى إضعاف جيش الاحتلال بالكامل، أو كما ورد في صحيفة "معاريف" قد تؤدي إلى إنهاء نموذج "جيش الشعب" لأن من المعروف حقًّا أن جلَّ أفراد المجتمع الإسرائيلي اليهود جنود وعسكر ومدرّبون، لذلك فإن هذه الحالةُ غير المسبوقة من الشرذمة والانقسام في المجتمع الاسرائيلي ليست زوبعةً في فنجان، تبعًا لحديث "يسرائيل زيف" رئيس شعبة العمليات في الجيش سابقًا أن هذه الخطة القضائية إن نجحت ستخلف دمارًا كبيرًا.